ادعمنا

ولاية الفقيه - Guardianship of the Islamic Jurist

ارتبط تكوين المجتمعات الإنسانية وآلية إدارة شؤونها بأحد أبرز اتجاهات العلوم السياسية المتمثل بالفكر السياسي، الذي يقع في صلب اهتماماته صياغة النظريات والأفكار التي تعبّر عن آراء الفلاسفة والمفكرين والباحثين في هذا المجال. وذلك لتفسير الظواهر السياسية ولعلّ أبرزها السلطة، ولرسم النظريات التي تُعنى بوضع أسس لدراسة هذا العلم. ويُعد الفكر السياسي الإسلامي من إحدى المفاهيم التي ظهرت في هذا الصدد، ويتضح من اسمها أنها ارتبطت بالمفكرين الإسلاميين الذين حاولوا صياغة أفكارهم ونظرياتهم استناداً للمبادئ الإسلامية. حيثُ حاولوا دراسة العلاقة ما بين الدين والدولة، وقد كان ولا زال لهذا الموضوع حيزاً واسعاً من اهتمامات الباحثين. وفي هذا الإطار، يُعد مفهوم "ولاية الفقيه" من أبرز المفاهيم التي مثلت الفكر السياسي الإسلامي الشيعي، حيث لاقت جدلاً واسعاً واجتهادات عدة لتطويرها. فما هي نظرية ولاية الفقيه؟ وما هي أبرز الأسس التي تتبناها؟ وإلى أي مدى هناك توافق حولها؟

 

تعريف ولاية الفقيه معجمياً

يقتضي تعريف ولاية الفقيه العودة لتعريف كل من مصطلحي الولاية والفقيه تبعاً لموضعهما المعجمي، وذلك لتوضيح المقصد من كل مصطلح على حدة. ومن ثم الانتقال لتعريفهما معاً.

الولاية: تبعاً للمعجم الوسيط تُعرّف الولاية عل أنها "القرابة. و- الخطة والإمارة. و- السلطان. و- البلاد التي يتسلط عليها الوالي. (الوليُّ): كل من وَلِيَ أمراً أو قام به." وبالاستناد إلى القاموس المحيط تمّ تعريف الوليّ كالتالي: "الاسم منه والمحبُّ، والصديقُ، والنصير. ووَلِيَ الشيء، و~ عليه ولايةً وَوَلايَةً، أو هي المصدرُ، وبالكسر: الخطةُ، والامارة، والسّلطان: وأوليته الأمر: وليته إياه. والولاءُ: الملك."

الفقيه: بالعودة إلى الفقاهة/ الفِقه/ الفقيه كما وردت في المعجم الوسيط يتبين أنها عُرفت كالتالي: "الفقاهة: الفقه والفِطنة. الفِقه: الفهْمُ والفطنةُ. و- العِلمُ. وغلب في علم الشريعة وفي علم أصول الدين. (الفقيه): العالمُ الفطن. و- العالم بأصول الشريعة وأحكامها. واستعمل فيمن يقرأ القرآن ويعلمه. (ج) فُقهاء." كما عُرفت تبعاً للقاموس المحيط فيما يلي: "الفِقهُ: بالكسر: العِلمُ بالشيء، والفهم له، والفِطنةُ، وغلب على عِلم الدين لِشرفه. وفقُهَ، ككرُم وفرِح، فهو فقيهٌ وفقهٌ، كندسٍ ج: فقهاءُ، وهي فقيهةٌ وفقُهةٌ. ج: فُقِهاءُ وفقائِهُ. وفقِههُ، كَعَلِمهُ: فهمَهُ، كتفقّهَهُ. وفقّهَهُ تفقيهاً: علّمهُ، كأفقههُ..."

 ولاية الفقيه: وقد تم تعريف ولاية الفقيه تبعاً لمعجم ألفاظ الفقه الجعفري: "قيام الفقيه الجامع لشروط الفتوى والقضاء مقام الحاكم الشرعي وولي الأمر الإمام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) في زمان غيبته في إجراء السياسات وسائر ما له من أمور عدا الأمر بالجهاد الابتدائي، وهو فتح بلاد الكفر بالسلاح، على خلاف في سعة الولاية وضيقها."

 

تطور مفهوم نظرية ولاية الفقيه

إنّ نظرية ولاية الفقيه بمفهومها الحالي صاغها وطبقها السيد روح الله الموسوي الخميني، إلاّ أن فكرتها كانت مطروحة من قبل من خلال اجتهادات أبرز المفكرين في إدارة شؤون الأمة في زمن الغيبة والتي سيتم الحديث عنها في الفقرة القادمة. وعند الحديث عن هذه النظرية لا بدَّ ذكر سياق تطورها.

- المحقق علي الكركي: لقد طرح المحقق الكركي آراء مهمة وأساسية في جوهر نظرية ولاية الفقيه التي أسست لشرعية تدخل نائب الإمام في زمن الغيبة في السلطة والحكم؛ وأهمها نظرته لصلاحيات النائب الواسعة التي تتجلى في حقه بإصدار الأحكام ووجوب إطاعة تنفيذها. وسعى إلى تطبيقها بعدما تهيأت الظروف المناسبة لذلك. فقد كان له نفوذ في الدولة الصفوية التي تأسست في إيران على يد الشاه اسماعيل الصفوي حيث اتخذت من المذهب الامامي مذهباً رسمياً للبلاد. وبعد انتقال الحكم للشاه طهماسب (ابن الشاه اسماعيل)، جعل من المحقق الكركي شريك له في الحكم لاعتباره نائب الإمام. وهكذا تكون قد انتقل إليه الحكم فعلياً وعملياً، وقد اعتبرت طاعته إلزامية ويُحرّم مخالفة أحكامه. ويقول المحقق الكركي في هذا الصدد: "اتفق أصحابنا رضوان الله عليهم على أنّ الفقيه العدل الامامي الجامع لشرائط الفتوى، المعبّر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية، نائب من قبل أئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل..." وهنا يتبين توسيع صلاحيات نائب الإمام ضمن النيابة العامة لتشمل صلاحيات في الحكم والسياسة .

- الشيخ أحمد النراقي: يُعتبر من أهم الفقهاء الذين تحدثوا عن صلاحيات الفقيه الواسعة ضمن كتابه "عوائد الأيام". حيث أجاز للفقيه التدخل بالحكم، ومن الجدير بالذكر أن قبله كان يتم استخدام مصطلح نائب الإمام، أما هو فقد وضع مصطلح "ولاية الفقيه" بهذا التركيب الذي استمر استخدامه منذ ذلك الحين. ويقول في هذا السياق: "' أما الفقيه، فقد ورد في حقه ما ورد في الأوصاف الجميلة والمزايا الجليلة، وهي كافية في دلالتها على كونه منصوباً منه إن بعد ثبوت جواز التولي له، وعدم إمكان القول بأنه يمكن أن لا يكون لهذا الأمر من يقوم به، ولا متولّ له، نقول: إنّ كلّ ما يمكن أن يكون ولياً ومتولياً لذلك الأمر ويحتمل ثبوت الولاية له، يدخل فيه الفقيه قطعاً.'" وهذه اشارة واضحة أنه يمكن للفقيه القيام بوظائف واسعة وله حق التصرف.

- الإمام روح الله الخميني: يُعد الإمام الخميني واضع الأسس للحكومة الإسلامية التي يرشدها ولي الفقيه وهو الذي طبقها فعلياً بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979. حيث نتج عنها تحويل النظام الإيراني من نظام ملكي يحكمها الشاه محمد رضا البهلوي إلى جمهورية إسلامية بقيادة الإمام الخميني عبر الاستفتاء. ويقول الإمام الخميني حول ولاية الفقيه في كتابه "الحكومة الإسلامية": "وإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل، انه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي محمد (ص) منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا." بحيث يعتبر أنّ للفقيه من ناحية الوظائف العملية صلاحيات مفوضة في زمن الغيبة مماثلة للصلاحيات التي كانت مفوضة للنبي والأئمة. فهو يعتبر أنّ لولي الفقيه الدور الأبرز في الحكم والرعاية والسياسة، وسيتم شرح نظرية السيد الخميني حول ولاية الفقيه بالتفصيل خلال الفقرات القادمة.

 

إدارة شؤون الأمة في زمن الغيبة

إنّ ولاية الفقيه كانت بمثابة نتيجة لزمن الغيبة أي غيبة الإمام المهدي (وهو الإمام الثاني عشر عند المذهب الشيعي). ففي الغيبة الصغرى التي امتدت من عام 260 ه إلى 329 ه أي 69 سنة، كان يتم التواصل من خلال النواب الخاصين بالإمام وذلك لإيصال الأحكام والمهام. إلاّ أن بعد وفاة آخر سفير للإمام المهدي، اعتبروا الشيعة أنّ الغيبة الصغرى انتهت وبدأت منذ ذلك العام أي 329 ه الغيبة الكبرى. ومنذ ذلك الحين، دخلوا الشيعة بمرحلة الانتظار وذلك للاعتقاد بأن مع ظهور الإمام المهدي (عج) سيشكل دولة إسلامية قائمة على القسط والعدل. وفي زمن الغيبة توقفت الأمور المتعلقة بالدولة مثل جباية أموال الخمس والزكاة وصلاة الجمعة وغيرها؛ واعتقدوا الباحثون في الولاية بضرورة إيجاد شخص يتولى إدارة شؤون الأمة. لذا "صاغ الإمام الخميني على بنى نقد العقل الانتظاري الغيبوي، وأسس الخط الفقهي التجزيئي مفهوم ولاية الفقيه تأسيساً على الدليل العقلي، وقال 'قد ثبت بضرورة الشرع والعقل: أن ما كان ضرورياً أيام الرسول (ص) وفي عهد الامام أمير المؤمنين (ع) من وجود الحكومة لا يزال ضرورياً إلى يومنا هذا، وهذا يفرض واجب تشكيل الحكومة على الناس'."

 

الحكومة الإسلامية

تبعاً لنظرية الإمام الخميني هناك سلطات ثلاث تتولى إدارة البلاد؛ وهي التشريعية والتنفيذية والقضائية. وبرأيه أنّ الله وحده واضع القوانين الثابتة ولا يحق لغيره وضع مثل هذه القوانين. أما من الناحية التنفيذية، يُقر بأنه ينبغي على تلك القوانين أن تُنفذ وهذا ما يتطلب وجود سلطة تنفيذية بعد سن القوانين يتولاها الحاكم الإسلامي تتمثل بالحكومة الإسلامية. وتكون وظيفتها الرئيسية تطبيق الشريعة. "يقول الإمام الخميني: 'الحكومة الإسلامية هي حكومة القانون الإلهي للناس، والفارق الأساسي بين الحكومة الإسلامية والحكومة المشروطة (السلطنة) والجمهورية، هو أن أعضاء هذه الأنظمة يخوضون في التشريع وسن القوانين، والحال أن ذلك يختص بالله، فالتقنين للشارع المقدس ولا يحق لغيره التشريع أبداً"." لذا فقد رأى أن الحكومة الإسلامية حاجة ضرورية وأقرّ من خلال الدروس الفقهية التي ألقاها في العراق- النجف على طلاب الحوزة العلمية في العام 1389 هجري (أي العام 1969 ميلادي)، أنّ من غير المعقول أن يبقى المسلمون بلا حكومة إسلامية في زمن الغيبة إلى أن يعود الإمام المهدي وأن تبقى أحكام الإسلام معطلة كل هذه الفترة. "وعلى أساس هذه النظرية في الفقه الاجتهادي في الفقه الامامي، قامت الثورة الإسلامية في إيران وتأسست الدولة الإسلامية فيها."

 

شروط تعيين ولي الفقيه

هناك مجموعة من الشروط التي يجب توافرها بالحاكم الإسلامي أي الولي. أولاً، يجب على الحاكم الإسلامي أن يكون مسلماً، وعاملاً بالشريعة الإسلامية. ولا يكفي أن يكون فقط مسلماً، إنما أن يكون لديه علم وفقاهة وثقافة واسعة في الدين أي أن يكون قد وصل إلى مرحلة الاجتهاد وأن لا يكون مقلداً لمرجع آخر. ثانياً، يفترض على الحاكم الإسلامي أن يكون عاقلاً، أي أنه يمتلك القدرات العقلية التي يحتاجها لتنظيم وإدارة المجتمع، وذلك لاتخاذ القرارات وتشخيص المصالح والمكاسب. ثالثاً، على الحاكم الإسلامي أن يمتاز بالعدالة وذلك ليحكم بالعدل وأن يكون قادر على الوقوف بوجه الظلم والطغيان. رابعاً، يجب أن يمتاز الولي بحسن الإدارة والتدبير. وهذا يتطلب أن يكون لديه خبرة واسعة في الأمور الإدارية والسياسية ليتمكن من اتخاذ القرارات الصائبة والنهوض بالأمة ومواجهة كافة التحديات. "وأن يمتلك، مضافاً إلى الخبرة بالأسس الإدارية والسياسية، علماً بمقتضيات زمانه وعواقب الأمور، وتشخيص الأصدقاء من الأعداء..."

 

آلية تعيين ولي الفقيه في الدستور الإيراني

وقد تمّ ذكر في المادة الخامسة من الدستور الإيراني حول تعيين الولي ما يلي: "في زمن غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه، تعتبر ولاية الأمة وامامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه العادل المتقي البصير بأمور العصر، الشجاع القادر على الإدارة والتدبير كمن أقرت له أكثرية الأمة وقبلته قائداً لها، وفي حال عدم إحراز أي فقيه لهذه الأكثرية فإنّ القائد أو مجلس القيادة المكون من الفقهاء الحائزين على الشروط المذكورة أعلاه يتولون هذه المسؤولية." ويقصد بهذه المادة أنّ مجلس خبراء القيادة يقومون بتعيين القائد، وإن لم يتم الاتفاق على قائد؛ يعملون على تعيين ثلاثة أو خمسة من جامعي شرائط القيادة ويعرفونهم إلى الشعب لاعتبارهم بأعضاء مجلس القيادة. فالتعيين والإقالة يقرهما مجلس خبراء القيادة الذي هو في الأساس منتخب من الشعب بعد البث بأهلية المرشحين لهذا المجلس عن طريق تصويت مجلس صيانة الدستور. وهذا ما حدث بعد وفاة الإمام الخميني، حيث عين مجلس الخبراء السيد علي الخامنئي خلفاً له بعد إلغاء "شرط المرجعية" الذي كان موضوعاً سابقاً، أي أصبح المرشد الأعلى للثورة الإسلامية أي على رأس ولاية الفقيه في إيران 1989. وهذا يعني أنّ هناك مجموعة من الشرائط التي يجب توافرها لكي يسمح بالترشح لمنصب القائد، وهي التي تم ذكرها آنفاً.

 

وظائف ولي الفقيه

للحكام الإسلامي مجموعة من الوظائف التي عليه القيام بها والتي تختلف حدودها تبعاً لآراء الباحثين المؤيدين للولاية المطلقة أو الولاية الخاصة، حيث سيتم التطرق للفرق فيما بينهما خلال الفقرة التالية. ولكن بشكل عام، تتجلى أبرز وظائف الولي فيما يلي:

- الوظائف الدينية: نشر المعرفة الإسلامية، وذلك ليتمكن من بناء مجتمع على تعاليم الإسلام يعرف فيه الشعب الحلال والحرام. ويكمن دوره بتهذيب النفوس ونشر الأخلاقيات من خلال شرح المسائل الأخلاقية. بالإضافة إلى إقامة الواجبات الدينية وإحياء السنن وحفظ الشريعة بوجه الانحرافات.

- الوظائف الإدارية والاقتصادية: العمل على تنظيم الإدارات والمؤسسات العامة للمساهمة في عمران البلاد من خلال مختلف المجالات؛ أي خلق فرص عمل، زيادة الإنتاج، رفع النمو الاقتصادي، زيادة معدل التنمية.

- الوظائف القضائية والاجتماعية: العمل على تحقيق العدالة الاجتماعية والدفاع عن الحق ومواجهة الظلم وتأمين الرفاهية في المجتمع الإسلامي لشعبه وذلك لتوفير الأمن. ولا سيما دور الولي بإدارة الأموال وتحديد طرق صرفها.

- الوظائف السياسية والعسكرية: يلعب دور الولي من خلال تعزيز القدرات القتالية من خلال تدريب المجاهدين عسكرياً وروحياً. كذلك لديه دور في العلاقات الدولية من خلال تحديد طبيعة العلاقة مع الدول الأخرى.

كما أنّ في المادة 110 من الدستور الإيراني، حُددت مجموعة من الصلاحيات والوظائف للقائد السياسية التي تتجلى بالتعيينات في بعض المناصب والعزل منها ولدوره في تشكيل بعض المجالس وإعلان الحرب والسلم والتعبئة العامة. وبعض هذه الوظائف والقرارات قد تبنى بالاستناد إلى اقتراحات من قبل الجهات المعنية.

 

ولاية الفقيه المطلقة وولاية الفقيه الخاصة

إنّ النقاش الذي يدور فيما يتعلق بولاية الفقيه بين الفقهاء هو خلاف حول حدود الصلاحيات ومدى شموليتها. فهناك قسم يعتبر أن للفقيه صلاحيات في جميع الأمور الدينية والدنيوية للأمة أي حتى في السياسية منها وهناك إلزامية لإطاعته. أما القسم الآخر من الفقهاء يُضيق حدود صلاحيات الولي ويعتبرها مسألة دينية ترتبط بالإفتاء والقضاء والمسائل التي ترتبط بالاجتهادات في القضايا الدينية. وبذلك سيتم تبيان الفرق فيما بينهما مع عرض نقاط الاختلاف ووجهات نظر كل منها:

- ولاية الفقيه العامة المطلقة: يعود أصحاب نظرية ولاية الفقيه المطلقة لبرهانها من خلال عدة أدلة. أولاً، من خلال القرآن الكريم، حيث يلجؤون "إلى بعض الآيات القرآنية الكريمة، كقوله تعالى {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}."ويعتبرون أن الفقيه الجامع للشرائط هو أولى وأكثر أهلية من غيره لتولي ذلك في عصر الغيبة، لاعتقادهم أنّ لا بدَّ وجود ولي في كل زمان. ثانياً، من خلال الاستناد إلى الروايات التي وردت عن أئمة الشيعة لاعتبار أن أحاديثهم مرشدة لدور الفقهاء في عصر الغيبة بعدهم. لا سيما مقبولة عمر بن حنظلة المنقولة عن الإمام جعفر الصادق (وهو الإمام السادس لدى المذهب الشيعي) والتي يكثر استخدامها لتأكيد الولاية المطلقة وأبرز ما جاء فيها: "'من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنني جعلته حاكماً'..." ثالثاً، من خلال الاستناد إلى الأدلة العقلية وقاعدة اللطف الإلهي، "فإنهم أي القائلون بالولاية المطلقة- يقولون: إن من المستحيل أن يُهمل الناس في زمن الغيبة، دون من يرجعون إليه." قد تم استخدام هذه الأدلة لتدعيم وجهة نظرهم حول الولاية المطلقة. كذلك "يتبين لنا، بالنسبة إلى الفقهاء، أن المحقق الثاني وكاشف الغطاء، والملا أحمد النراقي، والميرزا القمي، والشيخ فضل الله النوري، ومحمد حسين النائيني الغروي، وبخاصة سماحة الإمام الخميني، بسبب مواجهتهم للقضايا السياسية، ولطبيعة "النظام السياسي" ومقوماتها، طرحوا أفكارهم السياسية صراحة، على العكس من الفقهاء الآخرين..."

- ولاية الفقيه الخاصة: يعتبر أصحاب هذه النظرية أن نطاق هذه الولاية يقتصر على الأمور الحسبية. وهي التي تعني حسب الفقه الشيعي الأمور التي لا يرضى الله بإهمالها والتي يجب القيام بها في كافة الأحوال مثل الوصاية على من لا وصي له، التعهد بشؤون الأيتام وأموال الأوقاف وبعض الأمور الجزئية الأخرى. ويقول السيد أبو القاسم الخوئي في هذا الصدد: "'إنّ الولاية المطلقة للفقهاء في عصر الغيبة إنما يستدل من عموم التنزيل واطلاقه، حيث لا كلام من أحد في أن الشارع قد جعل للفقيه الجامع للشرائط قاضياً وحاكماً وإنما ثبّتوا للفقيه ولاية التصدي.. لنصب القيم والولي على القصر والمتولي على الأوقاف التي لا متولي لها والحكم بالهلال وغيرها'." أي أن مؤيدي الولاية الخاصة يعتبرون أنّ الولي ليس له صلاحيات سياسية، إنما يتجلى دوره بإصدار الفتاوي الشرعية التي تؤثر على الحياة الفردية والاجتماعية للشعب. كذلك اعتبر السيد علي السيستاني أنّ الولاية في الأمور الحسبية تثبت لكل فقيه جامع لشرائط التقليد، ويعتبر أن على المرجعية أن تنأى بنفسها عن السلطة والحكم وابعاد رجال الدين عن المناصب، وأن يقتصر دورها على الإرشاد. خلال إجابة السيد علي السيستاني حول رأيه بإقامة الحكم الإسلامي في العراق وعن إن كان يرغب أن تكون دولة العراق مثل دولة إيران الإسلامية يقول: " أما تشكيل حكومة دينية على أساس ولاية الفقيه المطلقة فليس وارد..." فهو ليس مع نقل التجربة الإيرانية إنما يكرر رأيه بأن يتم احترام الدين الإسلامي في الحكم العراقي لأنه يعتبر دين الأغلبية.

 

طروحات بديلة لولاية الفقيه المطلقة

وفي هذا الإطار، ذهب البعض للبحث عن طروحات بديلة لنظرية ولاية الفقيه لاعتبارهم أنها قد تكون أفضل على صعيد حل أزمات العالم الإسلامي. وسيتم ذكر نماذج عن هذه البدائل:

- نظرية ولاية الأمة على نفسها: وهذا الأمر قد طُرح من قبل الشيخ محمد مهدي شمس الدين من خلال كتابه "الحكم والإدارة في الإسلام". حيث يعالج موضوع الحكم الإسلامي ومشروعية الدولة الإسلامية. كما أنه "يناقش مصدر نظرية ولاية الفقيه في المذهب الامامي، لينتهي إلى اقتراح صيغة بديلة عن الخلافة السنية وعن ولاية الفقيه الشيعية، يسميها (ولاية الأمة على نفسها). وهي تقتضي أن يقيم كل شعب مسلم لنفسه نظام حكمه الخاص، في اطار وحدة الأمة الإسلامية". وقد اعتبر أن هذا الأمر يسمح للحكومة الإسلامية المقيمة للشريعة أن تصبح حكومة توليها الأمة وتغيرها الأمة بإرادتها الحرة. فهو مع إقامة الحكومة الإسلامية ولكن من خلال ولاية الأمة.

- نظرية شورى الفقهاء: وهي التي صاغها السيد محمد حسين الشيرازي، للتعبير عن آراءه حول حكم المجتمع الإسلامي. وهو قد فضل الشورى على الفردية لاعتبار استطلاع الآراء ضروري ليظهر الرأي الأصوب. وبرأيه، إنّ السلطة العليا في الدولة الإسلامية يجب أن تكون لمجلس الفقهاء الذي يتكون من مراجع التقليد الذين عليهم إدارة كافة شؤون البلاد ومعالجة القضايا التي تهم الأمة عبر الشورى. وتحدث أنّ الأمة هي التي تحدد وتنتخب ولي الفقيه الجامع للشرائط، أو قد يجمعون على فقهاء ليتولوا رئاسة الدولة من خلال الشورى فيما بينهم الذين يعملون على رسم السياسة العامة للبلاد. ولذا تكون شرعية الفقيه أو الفقهاء من خلال الشرعية الالهية لاعتبارهم نواب للإمام المنتظر، ولأنه يعبر عن إرادة الأمة لاختيارهم.

 

آراء معارضة لنظرية ولاية الفقيه

كأي نظرية، إنّ ولاية الفقيه لاقت العديد من الآراء المعارضة. فإنّ محسن كديور يعتبر أنه لا يوجد سند لولاية الفقيه الانتصابية معتبر سواء في الآيات القرآنية أو الروايات أو العقل. ويقول أنّه "يظلّ هذا المورد ضمن مبدأ عدم الولاية؛ بمعنى أن الفقهاء ليست لهم أيَّ ولاية شرعية على النّاس. وبعبارةٍ أخرى إن الحكومة الولائية فاقدة للدليل الدينيّ الموجّه." كذلك وجه عبد الكريم سروش العديد من الانتقادات لولاية الفقيه، منطلقاً من أنّ المعرفة الدينية تتطور مع استمرارية جهد البشر، وأنّه هناك استقلال ما بين الدين والسياسية. وذهب البعض الآخر لاعتبار أن النظام الإيراني طائفي برمته يسعى إلى تصدير الثورة، والهيمنة من خلال جماعات وأحزاب معينة. حيث يقول محمد جميح عن الثورة الإيرانية التي كرست ولاية الفقيه أنها "ثورة بلون طائفي واحد هو «التشيع»، وتستهدف مجموعة قومية معينة هم «العرب»، وذلك يكفي لكشف ماهية وأهداف هذه الثورة."

 

فما بين اختلاف وجهات النظر بين المؤيدة لولاية الفقيه المطلقة وتلك المعارضة لها، تبقى هي بمثابة حالة خصوصية للنظام الإسلامي في إيران تميزها عن غيرها من النظم السياسية في العالم وتركت أثر خارج حدودها. ومن الطبيعي أن تشهد تعارض الآراء حولها سواء داخل المذهب الشيعي أو خارج نطاقه. إذ أن السلطة والحكم من القضايا الأهم التي تعالج من قبل مختلف المفكرين والباحثين بتنوع ثقافاتهم وقيمهم. ونهايةً يمكن القول أن الفكر السياسي الإسلامي اقتصر على عدد قليل من الإسهامات في مجال تفسير الظواهر السياسية مقارنةً بالإسهامات الغربية. فما هو تفسير الفكر السياسي الغربي للسلطة؟ 

 

 

المصادر والمراجع:

إبراهيم مصطفى، أحمد الزيات، حامد عبد القادر، وآخرون، المعجم الوسيط، دار الدعوة، تركيا، 1989.

مجد الدين الفيروز آبادي، القاموس المحيط، دار الكتب العلمية، بيروت، 1971.

أحمد فتح الله، معجم ألفاظ الفقه الجعفري، غير محدد، الطبعة الأولى، 1995. 

الشيخ علي الكركي، كتاب رسائل المحقق الكركي، مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، الطبعة الأولى، قم، 1989.

كاظم قاضي زادة، أحمد جهان بزركى، بهرام أخوان كاظمي، وآخرون، حاكمية الفقيه بين السلطة والولاية، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، 2010.

الإمام روح الله الخميني، الحكومة الإسلامية، غير محدد، 1969. 

فؤاد إبراهيم، الفقيه والدولة، دار الكنوز، الطبعة الأولى، بيروت، 1998.

برهان غليون، ومحمد سليم العوا، النظام السياسي في الإسلام، دار الفكر، الطبعة الأولى، 2004.

مركز نون للتأليف والترجمة، دروس في ولاية الفقيه، جمعية المعارف الإسلامية، الطبعة الثانية، لبنان، 2014.

دستور جمهورية إيران الإسلامية الصادر عام 1983، ترجمة لجنة مكلفة من قبل وزارة الإرشاد الإسلامي، الفصل الأول، المادة الخامسة.

الشيخ فيصل الكاظمي، الحوزات الشيعية المعاصرة بين مدرستي النجف وقم، دار المحجة البيضاء، الطبعة الأولى، لبنان، 2012.

حامد الخفاف، النصوص الصادرة عن سماحة السيد علي السيستاني في المسألة العراقية، دار المؤرخ العربي، الطبعة السابعة، بيروت، 2015.

محسن كديور، نبذة عن آراء محسن كديور، 21/6/2015، تاريخ آخر دخول: 25/2/2021 الساعة 5:00. 

محمد جميح، إيران: طائفية الدستور والممارسة، 24/11/2016، تاريخ آخر دخول: 26/2/2021 الساعة: 4:00.

إقرأ أيضاً

شارك أصدقائك المقال

ابقى على اﻃﻼع واشترك بقوائمنا البريدية ليصلك آخر مقالات ومنح وأخبار الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ

ﺑﺘﺴﺠﻴﻠﻚ في ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ البريدية، فإنَّك ﺗﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻰ اﺳﺘﻼم اﻷﺧﺒﺎر واﻟﻌﺮوض والمعلوﻣﺎت ﻣﻦ الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ - Political Encyclopedia.

اﻧﻘﺮ ﻫﻨﺎ ﻟﻌﺮض إﺷﻌﺎر الخصوصية الخاص ﺑﻨﺎ. ﻳﺘﻢ ﺗﻮفير رواﺑﻂ ﺳﻬﻠﺔ لإﻟﻐﺎء الاشترك في ﻛﻞ ﺑﺮﻳﺪ إلكتروني.


كافة حقوق النشر محفوظة لدى الموسوعة السياسية. 2024 .Copyright © Political Encyclopedia